الخميس، 25 أكتوبر 2007

مدينة فارسكور

صور من كفاح شعب
إتجه الاستعمار الأوربي تحت شعار الحملات الصليبية بقواته محاولاً طعن مصر قلب العالم العربي النابض بعد أن تبين له أنه لا بقاء لنفوذه في آي جزء من أجزاء العالم العربي ما دامت مصر بعيدة عن قبضته ولقد استطاعت مصر أن تصد هجمات الصليبيين سواء كانت مباشرة أو ضد البلاد العربية، وتستطيع مصر أن تفخر بهذا الجهاد الذى تقوم به غير مدفوعة إليه بكسب مادي أو توسع إقليمي ولم يخفى ذلك على العرب فكانت حملات متكررة على شمال الوادي والتى أسهمت فيه الدقهلية بالنصيب الأوفر في تحطيم قوى الاستعمار.
لوحة توضح دفع الفدية مقابل اطلاق سراح لويس التاسع بعد أسره فى دار ابن لقمان

الحروب الصليبية
لقد كانت الحروب التى أطلق عليها الحروب الصليبية عبارة عن حملات قامت بها أوربا في العصور الوسطى من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر الميلادي وظلت متواصلة زهاء قرنين من الزمان لاستعباد الشرق وكسر شوكته وامتصاص دم أبنائه. وإن خلع الصفة الدينية على هذه الحروب ينطوي على مجافاة الواقع والحق ذلك لأنها لا تختلف عن أية حروب أخرى اعتاد الغرب أن يشنها على الشرق طمعاً في استعماره ولقد كان إطلاق الصليب على تلك الحروب نفاقاً وبهتاناً لأنها اتخذت من الدين شعاراً تخفى رجال السياسة وراء أهدافهم ولكي يظفر هؤلاء الساسة بتأييد البابوات ورجال الدين عمدوا إلى إثارة التعصب الديني التي كانت تتمشى مع عقلية أوربا في ذلك العصر الذي خيمت علية ظلمة الجهل والرجعية.
اتجاه الصليبيين الى مصر
إن الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الصليبيين اتضح لهم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي عليهم في الشام في معركة حطبن عام 1187م واستعادته لبيت المقدس ومعظم المدن الصليبية ببلاد الشام أن مصر زعيمة الشرق ومورد الرجال والسلاح فإذا بدأوا بالاستيلاء عليها سهل عليهم الزحف على القدس وبلاد الشام بأجمعها وخرجت حملة الصليبيين من عكا برئاسة جان دى بيرين الملقب بملك أورشليم وفى الثلاثين من شهر مايو 1218م وصلت طلائع تلك الحملة أمام دمياط وقد عرفت هذه الحملة بالحملة الصليبية الخامسة.
غزو الصليبيين لدمياط
لقد كانت وجهة الحملة الصليبية الخامسة دمياط وكان القائم بالسلطة في مصر في ذلك الوقت الملك الكامل الأيوبي بالنيابة عن أبيه السلطان العادل الأيوبي، شقيق صلاح الدين الأيوبي، المقيم في دمشق ونزل الصليبيون على الشاطئ الغربي للنيل تجاه دمياط على حين أعد الملك الكامل العدة للمقاومة على الضفة المقابلة على الشاطئ الشرقي للنيل .وكان الملك الكامل في أثناء ذلك معسكراً بجنده في العدلية وهى قرية قديمة بمركز فارسكور أسسها الملك العادل الأيوبي، ويرسل جنوده لصد هجوم الصليبيين على دمياط كما كان أبوه الملك العادل يرسل الإمدادات لابنه من الشام.واستطاع الصليبيون بعد قتال عنيف الاستيلاء على البرج الذي كان مشيداً على جزيرة عند مدخل دمياط ووصل هذا الخبر إلى الملك العادل الأيوبي وهو في بلاد الشام فمرض لسماعه ولم يلبث أن مات بعد أيام بدمشق وأصبح الملك الكامل الأيوبي بعد موت أبيه مسئولا عن صد الصليبين عن مصر. وحدث في معسكر الملك الكامل بالعدلية مؤامرة هددت عرشه وحياته فقد انتهز أحد قواده فرصة موت الملك العادل ودبر مؤامرة لعزل الملك الكامل وتولية أخيه على العرش وأحس الملك الكامل بهذه المؤامرة وخطورتها واضطر الى الانسحاب من العدلية جنوباً وعسكر بجيشه عند بلدة أشمون طناح أشمون الرمان مركز دكرنس وكانت عاصمة الدقهلية الى آخر عصر المماليك وكانت تقع على بحيرة المنزلة. وانتهز الصليبيون فرصة المؤامرة ونزلوا البر الشرقي للنيل واتجهوا نحو دمياط وظلوا يحاصرونها سبعة عشر شهراً حتى تسلقوا أسوارها واستولوا عليها عام 1219م .وبعد سقوط دمياط بيومين وجد الملك الكامل (ابن أخو صلاح الدين الأيوبي) أن بلدة أشمون طناح لم تعد المكان الصالح للإقامة والدفاع عنها فاتجه جنوباً وعسكر على البر الشرقي للنيل فرع دمياط في المكان الذى تشغله الآن مدينة المنصورة .اتجه الصليبيون جنوباً من دمياط في يوليو عام 1221م للوصول الى القاهرة بعد الانتهاء من تحصين دمياط ووصول الإمدادات إليهم وظل الصليبيون في تقدمهم جنوباً الى أن أعترضهم بحر أشمون (البحر الصغير) الذي كانت تقع عليه مدينة دكرنس انتهى عند بحيرة المنزلة بالقرب من المكان الذي تشغله الآن مدينة المنصورة ، وبذلك وقف جيش الفرنج والجيش المصري أحدهما الآخر ويفصل بينهما بحر أشمون البحر الصغير الآن.و بعد ذلك احتال الملك الكامل الايوبى على قطع الطريق بين الفرنج وقاعدته فى دمياط فانزل فى قرية على الضفة الشرقية لفرع دمياط (ناحية شرمساح مركز فارسكور)آلاف العربان كما أنزل بعض السفن فى النيل لتعترض سفن الصليبيين الآتية من الشمال من دمياط.و هكذا انقطعت المؤن المدد من البر و البحر عن الفرنج ثم لجأ الملك الكامل الايوبى الى وسيلة اخرى و هى قطع جسر النيل فى البر الشرقى و كان الفصل صيفا و الفيضان فى عنفوانه و شدته فغمرت المياه الارض شمال معسكر الفرنج و أصبحت المنطقة كلها أوحالا و انقلبت السهول الى مستنقعات و عندئذ بنى الملك الكامل جسر على بحر أشمون عبرت عليه الجنود المصريه و حاصرت الصلبيين.و شعر الفرنج بالحرج الشديد وبدأوا يتقهقرون شمالا الى دمياط فى محاولة يائسة على الطريق التى ظلت باقية للمرور و كان ذلك فى أواخر أغسطس عام1221م و لكن ما كادوا يتحركون حتى احاطت بهم جيوش الملك الكامل و الشعب المكافح من كل صوب و سرعان ما احسوا أن طريق العودة قد سدت فى وجوههم جيوش المصريين و مياه النيل و اضطر الفرنج الى طلب الصلح بدون قيد و لا شرط و تم تسليم دمياط و رحل الفرنج الى بلادهم فى أواخر سبتمبر عام 1221م بعد ان منوا بهزيمة منكرة بفضل كفاح الشعب المصرى المناضل و قيادة الملك الكامل الذى ورث صفات عمة العظيم البطل صلاح الدين الايوبى.
المنصورة ولويس
أعلن لويس التاسع ملك فرنسا انه سيقود غزوة صليبية هائلة؛ لاستعادة شرف الصليبين الذي فقدوه في المنصورة وانه سيعرف كيف يحقق أهدافه كاملة في الاستيلاء على مصر هكذا زعم لويس المغرور ... وتجمعت جيوش هذه الحملة في قبرص في ربيع سنة 1248 وعلى رأسها الملك القديس كما كانوا يسمونه ومعه زوجته (مرجريت) واخوته وبنو عمه وكثير من الأمراء الإقطاعيين الإنجليز والفرنسيين، أبحرت الحملة التي كان قوامها خمسين آلفا من المقاتلة متجهة إلى الشواطئ المصرية، وألقت مراسيها خارج دمياط كما فعلت الحملة السابقة .وكان ، الملك الصالح أيوب بدمشق حين وصلت الحملة إلى دمياط فلما علم بأخبارها عاد مسرعاً إلى مصر غير أن المنية عاجلته في طريق عودته، فأخفت زوجته "شجر الدر" خبر وفاته لحين عودة ابنه توران شاه من حصن (كيفا) ، وقادت هي حركة المقاومة، ووافقت على الخطة التي وضعها الظاهر (بيبرس البندقدراى) وبناء على هذه الخط أخفى بيبرس القوات المصرية داخل المنصورة، أمر بمنع التجول وأن يلزم المنصوريون مساكنهم لا يخرجون منها إلا بإذن، كما أمر العساكر المصرية الأيوبية تظل في كمانتها حتى صدور الإشارة إليها. ثم دخل الصليبيون بقيادة "روبرت ونت ارتوا" المنصورة ظهر ذلك اليوم من الناحية الشرقية فوجدوا مدينة خالية من المقاومة، وظن رو برت أن عسكر المنصورة وأهلها قد هربوا منها، بعد ان سمعوا ما حل بمعسكر جديلة (قرية قريبه من المنصورة في طريق دمياط كان الصليبيون قد استولوا عليها قبل ذلك بأيام ) وتويت آماله في النصر القريب.وانتشر الفرسان الصليبيون بخيولهم في الشوارع والأزقة والحارات تمهيداً لذهاب روبرت بنفسه إلى القصر السلطاني في أقصى الناحية القريبة من المنصورة التسليم والاعتراف بالنصر الصليبي التام. .غير أن روبرت كان مخدوعاً، إذ لم يكد يقترب من القصر السلطاني حتى صدرت أوامر القائد (بيبرس البندقدارى) بيده حركة تطويقية متفق عليها فأباد الجنود المصريون ورجال المقاومة، أعدادا ضخمة من الخيالة الصليبية المنتشرة في الشوارع والأزقة والحارات ، ثم أطبقوا على روبرت وفرقته عند باب القصر السلطاني من جميع الجهات وهرب روبرت كما هرب مئات من الصليبين أملا في النجاة.وهنا يتجلى الدور البطولى لأهل المنصورة الذين سهموا في إبادة الصليبين؛ إذ كانوا يستبسلون في قتالهم بكل ما تصل إليه أيديهم من أسلحة ونحوها، كما كانوا يطاردونهم أثناء هروبهم..أما روبرت فقد لجأ إلى بيت قريب من القصر السلطاني، واعتصم به أملا في إيجاد وسيلة للفرار ... لكن أهل المنصورة لم يلبثوا ان اقتحموا هذا البيت ، واخرجوا قائد الحملة (روبرت) قتيلاً.وتذكر المراجع التاريخية ان قتلى الصليبين في معركة المنصورة هذه بلغ حوالي ألف قتيل، على حين أن مصادر أخري تذكر أن قتلاهم زادت على ألف وخمسمائة قتيل.
بدايةالنهاية..وصل الملك توران شاه، وتسلم قيادة الجيش العربي، وبدأ أعماله الحربية بالاستيلاء على جميع المراكب الفرنسية التي تحمل المؤن للمعتدين، وبذلك وعرقل خطوط إمدادهم، فاضطرهم إلى التقهقر بعد ان نقدت ذخيرتهم وعتادهم الحربي، وطاردتهم قوات المقاومة الشعبية، واخذ الفدائيون العرب يغيرون على الجيش الصليبي أثناء انسحابه تجاه دمياط، ثم طوقوهم وسدوا عليهم طريق الانسحاب ودارت المعركة الفاصلة.بلغ قتلى الصليبين في هذه المعركة - كما يذكر المؤرخون - ثلاثين ألفا، غطت جثثهم وجه الأرض وكان هذا اليوم عظه وعبرة لكل معتد أثيم.
عاقبةالباغي:دارت المعركة الفاصلة عند ميت النصارى ( منية النصر) قرب شرمساح، وكانت تعرف هذه البلدة باسم منيه ابى عبد الله وبدأت طلائع النصر تقترب، وعندما ايقن لويس التاسع ملك فرنسا ان لا أمل في النصر، فقد رأى فلول جيشه تفر، واستحر فيهم القتل أمام عينيه، عرض على (الطواشي رشيد الدين) والأمير (فخر الدين القيمرى) التسلم، وطلب الأمان لنفسه ولمن بقى معه من خاصة عساكره وحاشيته ، فأجابه إلى الأمان الذي طلب.ولكن بعض الفرنسيين أخذتهم العزة بالآثم، فلقوا ما يستحقونه من مصر مرير على أيدى الوطنيين.واستسلم لويس الحزين لنهايته الأليمة حيث أرسل أسير إلى دار (إبراهيم بن لقمان) قاضى المنصورة، وكاتب الإنشاء فبقى بها سجيناً في حراسة الطواشي "صبيح المعظمى" ينتظر ما يفعل به. وامتلأت الدور بالضباط الصليبين الأسرى، وبالقادة من الإنجليز ، والفرنسيين، وأنشئ معكسر خارج المدينة لينزل به من بقى من جيش لويس من الأسرى والجرحى.لقد اشترط أبناء الدقهلية المنصورون تسليم دمياط، ، وجلاء الحملة الغادرة عن الإقليم قبل إطلاق سراح الملك الأسير أو غيره من كبار الأسرى، كما اشترطوا دفع فدية كبيرة للملك ولكبار ضباطه، ولم يكن أمام لويس إلا الإذعان لمشيئة المنتصر، فافتدى نفسه وبقية جنده بفدية كبيرة قدرت بعشرة ملايين من الفرنكات .
لقد اسر أبناء الدقهلية لويس التاسع في دار ابن لقمان، وتركوه مقيداً في حراسة أحد العبيد، فالعرف العسكري يقضى بأن القواد والملوك عندما يؤسرون لا يقيدون بل يتركون في حراسة ضباط عظام، لقد كان لويس الحزين أسيرا في دار ابن لقمان مقيداً لا يحرسه إلا أحد العبيد مبالغة في إذلاله، والنيل من كبريائه وشعر لويس نفسه بمرارة هذا المصير فلقد ولدت الملكة مولوداً جديداً أثناء المعركة رأى نور الحياة، ونجم أبيه موشك على الأفول لقد سمى لويس وليده " تربستان" ومعنى هذه التسمية وليد الأحزان. ومنذ ذلك الوقت يطلق المؤرخون أحيانا على لويس التاسع اسم الملك الحزين
المنصورة ونابليون
ومنذ ذلك النصر الذي الحق بشرف فرنسا جرحاً لا يندمل ، وسطر في صفحات تاريخها عاراً لا يمحى، هي تحلم بالثأر من الشرق لشرفها الضائع على ضفاف النيل الخالد. فهذا نابليون يحاول تضميد جراح فرنسا التي تزفت دماءها على ارض الدقهلية في المنصورة وفارسكور، فيأتى بعد خمسة قرون ونصف . مزهوا بانتصاراته في إيطاليا ، ممنيا نفسه بنصر جديد يكسبه الفخر، ويحقق له حلمه في إمبراطورية واسعة في الشرق. فهل يستكين الشعب لطاغية أوربا الجديد؟ وهل ينام على الضيم ويخضع للمستعمر الغاشم؟ألحق أن هذا الشعب العربي الأبي خير الاستعمار، ودفع ضريبة الحرية كفاحاً مريراً لا يعرف الخضوع والاستسلام فهذا موقفه مع نابليون وحملته سنة 1798م. طرقت جحافل نابليون مصر في صيف عام 1798 وحكام مصر من المماليك في غفلة عن أمرها، واستولت الحملة على الإسكندرية ثم على رشيد تقدمت إلى شبرا خيبت على فرع رشيد حيث تغلبت على قوت مراد بك الأمير المملوكي ثم هزمتها ثانية في إمبابة . لم يجد نابليون الطريق ممهداً أمامه أثناء زحفه في غرب مصر ، فتخطفت المقاومة الشعبية أطراف جيشه، وقاسمته الأرض شبرا شبرا، وامتدت الثورة على المستعمر الغاضب من غرب مصر ، إلى وسطها وجنوبها، وازدادت اشتعالاً في شرقها الأمر الذي دفع نابليون بونابرت إلى محاولة إخماد هذه الثورات فعبر النهر إلى القاهرة التي تركها حكامها من المماليك حاملين معهم ما خف وزنه وغلا ثمنه، تركوا القاهرة لأهلها العزل من السلاح. فدخلها نابليون دخول الحذر الخائف ، فأصدر المنشورات التوددية إلى المصريين حتى يستميلهم إليه.وقد عزعلى المصريين سقوط عاصمتهم في يد الفرنسيين فازدادت الثورة اشتعالاً في أقاليم مصر المختلفة خاصة إقليم الدقهلية، الأمر الذي دفع بونابرت إلى تعيين الجنرال فيال Vail قومندانا لمديريتي المنصورة ودمياط.خرج فيان في أوائل أغسطس سنة 1789 بفرقتين لإخضاع هاتين المديريتين.فقصد أولا إلى مدينة المنصورة، ومكث بها قليلاً بها حامية تحتلها ، غير أن أهالي المنصورة والبلاد المجاورة لم يصبروا على ضيم هذه الحملة ، واجمعوا أمرهم على الفتك بها "ولقد تحقق ذلك في 10 أغسطس سنة 1798 حين اقبل أهالي البلاد المجاورة من مديرية الدقهلية إلى المنصورة ، اختلطوا بأهل المدينة ، واشترك الرجال والنساء في مهاجمة الفرنسيين الذين لزموا معسكرهم حين شعروا بالخطر ، غير أن الثائر حاصروهم وأشعلوا النار في معسكرهم الأمر الذي دفع الفرنسيين إلى إخلاء هذا المعسكر ، قاصدين الهرب إلى دمياط؛ ولكن الثوار الوطنيين قطعوا عليهم الطريق ثم أبادوهم عن أخرهم ، وكان عددهم كما يقول ساباتبيه أحد ضباط فرقتي فيال - 160 قتيلاً أشعلت هذه الواقعة نار الثورة والحمية في البلاد المجاورة ورغم أن نابليون عين قائداً عرف بالقسوة والوحشية هو الجنرال دوجا Dugua قومندانا لمديرية المنصورة ، ورغم أن هذا الجنرال حاول أن يقضى على الثورات الوطنية بكل وسيلة ، ومن ذلك انه قبض على اثنين من زعمائها نالها شرف اتهامهما بإشعال نار المقاومة بالمنصورة واعدمهما، وطاف الفرنسيون برأسيهما في شوارع المدينة. كما اخذ في تعقب المشتركين في هذه الثورة من سكان البلاد المجاورة للمنصورة ، ومعاقبة القرى التي اشتركت فيها أيضا . رغم هذا كله فقد لقي الفرنسيون عناء كبيراً في إخضاع هذا المديرية ، وعلى العكس مما أراد المعتدون اشتدت المقاومة وامتنع كثير من أهالي البلاد عن دفع الضرائب ، وقابلوا الفرنسيين بالرصاص والعصي، وشملت روح الثورة القرى كلها الآمر الذي اعجز الجنرال دوجا عن الانتقام من القرى التي اشتركت في قتل الحامية الفرنسية بالمنصورة. وإزاء هذه الهزيمة الجديدة كان لابد للمستعمر من إرهاب جديد.
معركة دنديط
أرسل نابليون أوامره إلى قومندان القليوبية الجنرال Murat، مورات لمعاونة دوجا في إخضاع إقليم المنصورة. فانتقل من بنها إلى ميت غمر في أواخر أغسطس سنة 1798، وفى وحشية المستعمر هاجم الجنرال مور بلدة (دنديط) إحدى بلاد مركز ميت غمر التي وجهت إليها تهمة الاشتراك في واقعة المنصورة واستباح جنوده القرية، وانزلوا بها وبأهلها الخراب والدمار في سبتمبر من نفس العام.لم يستكن أهالي دنديط لهذا الإرهاب وانما قاوموا الفرنسيين مقاومة اعتبرت من المفاجآت التي لم يكن يتوقعها الغازي المغتصب، فاضطر نابليون بونابرت إلى إصدار أوامره إلى الجنرال (لانوس) بمساعدة الجنرال مورا على إخماد هذه الثورة والقضاء على مقاومة سكان دنديط.ولقد وضع الجنرال خطته الحربية لمهاجمة الوطنيين الأبطال في دنديط فتولى مورا قيادة الميمنة ولا نوس الميسرة وسار لمهاجمة الثوار الوطنيين في معاقلهم غير ان السير كان متعذر لأن الثوار قطعوا جسور الترع فغمرت المياه الأراضي مما عرقل تقدم هذه الحملة أعطى الوطنيين فرصة للتقهقر عن دنديط إلى قرية (ميت الفروماى) وهناك قاوموا الفرنسيين مستعينين بمدفعين اثنين ... ثم تركوا هذه القرية إلى التلال المجاورة واخذوا في مقاومة الفرنسيين مقاومة أجبرتهم على الارتداد إلى ميت غمر .
انتشار الثورة:
لم تعد الثورة قاصرة على دنديط وحدها ، ولكنها امتدت في سرعة البرق إلى مختلف البلاد وكانت كلما أخمدت في جهة ظهرت في جهة أخرى بشكل اشد وأقوى، ولقد عبر عن ذلك ريبو الفرنسي نفسه اصدق وأروع تعبير حين قال " كان الجنود يعملون على إخماد الثورة بإطلاق الرصاص على الفلاحين وفرض الغرامات على البلاد لسكن الثورة كانت كحية ذات مائة رأس كلما أخمدها السيف والنار في ناحية ظهرت في ناحية أخرى أقوى واشد مما كانت .. فكانت تعظم ويتسع مداها كلما ارتحلت من بلد إلى آخرى.سرت نار الثورة إلى كل جهات المديرية، واشتدت هذه الثورة في بلاد البحر الصغير التي تقع بين المنصورة وبحيرة المنزلة الأمر الذي اقلق بونابرت وأفزعه، فقد كانت خطته تقوم على تأمين المواصلات بين المنصورة الصالحية وبلبيس ، حتى يطمئن على حدود ممر الشرقية.. وقد كتب إلى الجنرال دوجا في هذا الصدد عدة رسائل تظهر مبلغ اهتمامه بهذا القطاع الثائر.
دور المنزلة:
وكان لهذه البلدة شأن وخطر في تلك الجهات ، لما امتد في أنحائها من أسباب الثورة، ولظهور جماعة من زعماء الأهالي يحرضون الناس على مقاومة الفرنسيين ، وقد برز من بينهم في تقارير القواد الفرنسيين اسم "حسن طوبار" شيخ بلدة المنزلة كزعيم للمحرضين وخصم عنيد لا يستهان به، ومدبر لحركات المقاومة في هذه الجهات.كان "حسن طوبار" زعيماً لإقليم المنزلة الذي سبب متاعب كثيرة للفرنسيين... كتب ريبو يصف سكان هذه الجهات بقوله "ان مديرية المنصورة التي كانت مسرحاً للاضطرابات ، تتصل ببحيرة المنزلة ، وهى بحيرة كبيرة تقع بين دمياط وبيلوز القديمة، والجهات المجاورة لهذه البحيرة وكذلك الجزر التي يسكنها قوم أشداء ذوو نخوة، ولهم جلد وصبر، وهم اشد بأساً وقوة من سائر المصريين".بدأت الحملة تتحرك على البحر الصغير من المنصورة يوم 16 سبتمبر سنة 1798 بقيادة الجنرال (داماس ووستنج) اللذين أنقذهما الجنرال دوجاً، وقد زودهما بالتعليمات التي يجب ابتاعها، وفى هذه التعليمات صورة حيه لحالة البلاد النفسية ومكانة الشيخ "حسن طوبار". تحرك الجنرال على رأس الجنود الفرنسيين، وساروا بالبحر الصغير على ظهر السفن فأرسوا ليلا على مقربة من (منية محلة دمنة) و شعر أهالي المنية باقتراب الحملة فأخلوا بلدتهم وكذلك كان الوضع في القباب الكبرى، وقد كلف الجنرال داماس مشايخ بعض القرى المجاورة ان يبلغوا أهالي القريتين ان يعودوا فإن القوة لن تنالهم بشر إذا دفعوا الضرائب المفروضة عليهم .. وهناك افترق القائدان ، فرجع الجنرال وسنتج إلى المنصورة، ومضى داماس إلى المنزلة لإخضاعها ومعه من الجنود اكثر من ثلاثمائة جندي بأسلحتهم وذخيرتهم غير ان الجنرال دوجا وجد ان هذا العدد من الجند ليس في مقدوره القضاء على مقاومة المنزلة مما دفعه إلى أن يطلب المدد من داماس.
معركة الجمالية
سار الجنرال (داماس) بجنده حتى وصل إلى برنبال الجديدة حيث عسكر بجنوده ليلاً تجاهها، وغادرها قبل شروق الشمس فواصل السير بحراً يريد الجمالية، فبلغها في نحو الساعة العاشرة صباحاً. غير أن سفنه رحلت في بحر أشمون من قلة المياه، فهاجمها الأهالي بإطلاق النار، كما أمطرها وابلا من الحجارة من أسوار بلدتهم، فأمر الجنرال داماس بإنزال الجنود إلى البر لرد هجوم الأهالي ،ولكنه بعد قتال استمر أربع ساعات انسحب من الموقع الذي نزل به، ورأى انه لا يستطيع الثبات فيه ولا متابعة السير في بحر أشمون ، فأضرم النار في الجمالية ، لتشتعل النار الأهالي عن مقاومة الحملة، وعاد أدراجه المنصورة، ومعاً جرحاه وقتلاه.وقد كانت معركة الجمالية ذات شأن وخطر ، وصفها الضابط جاز لاس Gaz las من ضباط كتيبة الجنرال داماس - في تقريره عنها قال : "لما وصلنا بحر اتجاه الجمالية، فوجئت السفن التي كانت تقل الجنود بعاصفة من الأحجار والرصاص انهالت من أسوار البلدة وبيوتها، وفى الوقت نفسه رأينا جموعاً كثيرة من العرب والممالك والفلاحين ليس بيدهم سلاح سوى العصي يهاجموننا بحماسة فيستشهدون بين أسنة رماحنا ".وقد انتهت معركة الجمالية بإحراق البلدة ، وانسحاب الفرنسيين إلى المنصورة فوصلتها في 21 سبتمبر. ومن تتبع سير الحملة يتضح لنا أنها لم توفق في إتمام مهمتها فقد بقى "حسن طوبار" قوياً يثير البلاد، ويستفز الناس للمقاومة وكان الفرنسيون يحسبون له حساباً كبيراً، ويسعون بمختلف الوسائل لكي يضعوه، أو يجتذبوه إلى صفوفهم .وقد كان (حسن طوبار) يخادع الفرنسيين عن خططه ومقاصده ففي الوقت الذي ابلغ فيه رسول داماس انه لا يأبى دفع الضرائب العادية إذا ما ترك حراً كان يستعد للقتال ، كما كان على اتصال بإبراهيم بك زعيم المماليك الذي كان مرابطاً بفلول جيشه في جنوب سورياً، وقد كان على اتصال مستمراً أيضا بقواته المنظمة لمقاومة الفرنسيين، فحسن طوبار كان يشعل الثورة في مختلف البلاد الواقعة بين دمياط والمنزلة والمنصورة ، وبينما كان يثير الأهالي في بلاد البحر الصغير كان في الوقت نفسه يجمع مراكبه في بحيرة المنزلة لمهاجمة دمياط لتخليصها من يد الفرنسيين. ولذا أرسل الجنرال فيال إلى زميله الجنرال دوجا ينذره بقرب هجوم الثوار على مدينة دمياط؛ لأن حسن طوبار يحشد أسطولا كبيراً في بحيرة المنزلة لهذا الغرض ويطلب المدد . قام الثوار بهجوم مهم على دمياط في 16 سبتمبر سنة 1798 واشترك فيه أهالي البلاد المجاورة لدمياط، كما اشترك فيه أيضا أسطول حسن طوبار وقد نجح المهاجمون الثوار في قتل الحراس الفرنسيين في المخافر الأمامية للمدينة، وظل القتال متواصلا ليلة 16 سبتمبر ، غير أن عدم تكافؤ الأسلحة والتنظيم دفع المهاجمين إلى التقهقر والالتجاء إلى قرية (الشعرا) حيث اتخذوها معسكراً تحصنوا به.ونتيجة لحرج مركز الفرنسيين في دمياط اضطر نابليون إلى إرسال الجنرال (اندريوس) ليعاون الجنرال فيال في توطيد سلطان الفرنسيين في تلك الجهات. فتقدم الفرنسيون في 20 سبتمبر للاستيلاء على الشعراء ، وبالرغم من استيلاء الفرنسيين في تلك الجهات فتقدم الفرنسيون في 20 سبتمبر للاستيلاء على الشعراء، وبالرغم من استيلاء الفرنسيين عليها فإن الثورة تفاقمت في البلاد الواقعة بين المنصورة ودمياط، وتعددت حوادث مهاجمة الثوار للسفن الفرنسية القلة للجنود في النيل، مما دفع الفرنسيين إلى التنكيل بالبلاد التي هاجمت السفن كما حدث في (ميت الخولى) حيث اعتدوا على الأهالي ،واستولوا على ما بها من مواش وطيور وحلى.
المنزلة مرة أخرى
وجد نابليون بونابرت أن السبب في اشتعال نار الثورة في هذه الجهات رجع إلى الروح التي بثها حسن طوبار في نفوس الأهالي لذلك عزم نابليون - كي يستتب له الأمر في هذه الجهات على القضاء على نفوذ حسن طوبار، فأرسل مدداً إلى الجنرال دوجا، وكلفه بالاستيلاء على المنزلة كما كلفه بإرسال كتيبة إلى الجنرال اندريوس للاستيلاء على ما ببحيرة المنزلة من جزائر وسفن.وبدأ الجنرال دوجا في تنفيذ الخطط العسكرية المكلف بها فعهد إلى الجنرال اندريوس أن يذهب إلى المنزلة عن طريق البحيرة كما عهد إلى الجنرال داماس Damas أن يسير إليها بالبر ، وبذلك تطبق القوتان على المدينة من البر والبحر .ولما أحس (حسن طوبار) بخطط الفرنسيين غادر المنزلة ومعه معظم أهلها إلى غره؛ لإعادة تنظيم حركة المقاومة لاسترداد البلاد فدخل داماس المدينة التي وجدها خالية إلا من الشيوخ وعجائز النساء،فأحتلها بعد أن فوت عليه حسن طوبار وكذلك الأهالي فرصة الانتقام من زعيمهم ومنهم. أما حملة الجنرال اندريوس فقد فشلت في مهمتها بسبب تكاثر سفن الأهالي حول سفنه، ومحاولة الأهالي إغراقها فاضطر إلى العودة إلى دمياط. هكذا كانت الحركة الواسعة المدى التي أقلقت بال الفرنسيين زمنا، وهكذا كانت بطولة ذلك الرجل الذي أزعج قواد الجيش الفرنسي وتردد اسمه في تقاريرهم ورسائلهم ، وورد اسمه في رسائل نابليون نفسه غير مرة كعنوان للمقاومة الأهلية القوية. لقد ظل إقليم الدقهلية يكافح هؤلاء المستعمرين في عنف، وشغل إخضاعه الفرنسيين اكثر من شهرين، وكلفهم ثمناً غالياً من جنودهم وقوادهم ، ففقدوا فيه وحده - حتى آخر أكتوبر 1798 ما يقرب مما فقدوه في سائر بلاد القطر منذ وطئت أقدامهم الدنسة ارض الوطن الحبيب.